خرافة ليل

كانت عجوزاً شمطاء مُلء وجهها بالتجاعيد ، لم يعد لها في الدنيا ما تفعله وكأنها تنتظر آخر أيام حياته ، قالت لي بعد أن أمسكت بيدي الصغيرة ووضعتها بين يديها التي فقدت نظارتها مع الزمن:
- من تحسب نفسك يا فتى ؟ حتى تتعالى على كل هؤلاء القوم ؟
نظرت إلى وجهها فوجدت فيه ابتسامة كانت تريد تشجيعي بها لأتحدث معها ، ولكن لم أبالي بابتسامتها تلك وسرحت في كل التجاعيد التي كانت ترتسم على خدودها وجبهتها ، لم أكن أعلم أن الزمن هو الذي يفعل بنا هذا ، ولم أرى عجوز بهذا العمر من قبل ، مددت يدي إلى وجهها بدأت ألتمس ذلك الوجه المجعد فينزلق تحت أناملي الصغيرة ، وهي تضحك وقالت : أأعجبك وجهي ؟ فقلت لها : نعم ، ولكن لماذا ليس ككل الوجوه ؟ - لم تشعر بالخجل بقدر ما أحسست بالأسف الذي يعترمها – وتنهدت بزفرة واضحة وكأنها ليست راضية بما هي فيه وقالت : هذا ما أورثه لي الدهر ، بعض التجاعيد والكثير من الذكرايات والحكايا .
وعادت إلى هذرها الأول : أجبني لماذا تتعالى على قومك ؟ أردت أن أهرب من سؤالها وأن أثبت لها بأني ليس متعالٍ كما تدعي ، ولكنها أصرت على ذلك ، وضغطت على يدي وقالت أتريد أن تتعالى عليَّ أنا أيضاً – فأجبت بلا مبالاة مني – من تكونين حتى أتعالى عليك أو أتكبر ؟ فما أراك إلا عجوز تنسج كفنها لتغادر الدنيا وتترك مكانها لغيرها من النساء ، فرفعت يدها وأرادت أن تهوي بها على وجهي ، ولكنها لم تفعل ، وأنزلت يدها ودغدغتني لتثير في الضحك وتشعرني بالطمأنينة لها ، ففكرت أن أترك لقدمي العنان وأتركها مكانها فهي لم تستطيع أن تلحق بي ، إلا أن حديثها أعجبني ، فسحبت يدي منها برفق وابتعدت بضع خطوات ، وقلت لها : هذا ليس تكبراً ولكني لا أعرف ما يفعلون ولا أود أن أخوض فيما لا أعرفه ، ضحكت العجوز كثيراً وقالت : لم تزل صغيراً حتى تعرف ما يفعلونه علية القوم وسادته ، فاتركهم في شأنهم ولا تفكر بهم .
- تركتهم وشأنهم فقلت لي أنك متكبرٌ عليهم ولا تجالسهم ، فكيف تردينني أن أتركهم وشأنهم الآن ؟
- من أين تأتي بهذه الكلمات ؟ فهذا الكلام لا يقوله الأطفال .
- إني أقول ما تقولون ، ولكني لا أعرف ما تتحدثون فيه أحياناً .
- مسكينٌ أنت يا بني ستشقى بعقلك هذا فجسدك الصغير لا يحتمل ما في داخله ، وسترى كم ستقسو عليك الأيام ، بما تفعله بنفسك .
نظرت في عينيها فوجدتها ملئت حزناً وكأن سنين عمري كلها أمامها .
انسحبت بهدوء ونظرتها مرتسمة في خيالي ابتعدت عنها قليلاً واستدرت لأكمل حديثي معها فلم أجد إلا بعض خطاها على الأرض ، تبعت أثرها ثم تلاشت وأطلت النظر إلى الأرض لعلي أجد بعض آثارها . . حتى سمعت صوتاً يناديني فالتفت إليه فإذ بها شيخاً طاعناً يستعين على المسير وتثبيت قدماه بعصا كبيرة ، فقلت له : ماذا تريد ؟
- أريد زوجتي
- ومن تكون ؟
- تلك التي كانت معك منذ برهة .
ارتجت الأرض تحت قدماي من الخوف والهلع
- لا أدري أين ذهبت .
- بماذا أخبرتك تلك الشمطاء ؟
- بشيءٍ لن أحدثك به .
- وأنصحك بأن لا تحدث به أحد .
وخطى نحوي بخطواته الثقيلة المتهالكة ، وكانت كل خطوةٍ من خطواته تزيد في داخلي الرهبة فسقطت أرضاً ..
وعندما استيقظت وجدت نفسي في فراشي وحولي أخوتي ، قالوا لي كنا نستمع إلى حديثك في نومك فمن كانوا في حلمك لتحدثهم بهذا الوضوح ؟