من أجمل ما قرأت
عقارب الساعة تكاد تتجاوز الثانية ظهراً ، يلملم حاجياته مسرعاً ؛ فلم يتبقى على بدء حظر التجوال سوى ساعتين . .
يجب أن يخرج من المكتب قبل أن تزدحم الشوارع بالعائدين إلى بيوتهم ؛ فمازال أمامه المرور على طفليه لإحضارهما من المدرسة ، ثم شراء مستلزمات البيت حتى الغد ، ثم السير لأكثر من عشرين دقيقة فالباص لا يمر إلا بالشوارع الرئيسية . . إنها معاناة كل يوم .
يخرج من المكتب متعجلا ؛ يتجاهل حتى رد السلام ؛ فربما يجره رد السلام إلى ثرثرةٍ لا طائل منها سوى التأخير و إضاعة الوقت .
- الحمد لله لم يتأخر الباص ؛ سأصل إلى المدرسة قبل خروج الأطفال .
- ما شاء الله . . مقعدان خاليان بالباص . .
أعتقد أن الجلوس بجوار هذا الصبي الصغير سيكون أفضل من الجلوس بجوار السيدة .
تفحص الصبي سريعاً . . فلم يرى إلا جسده النحيل ؛ إنه لا يتجاوز الخامسة عشرة ؛ ولكن لماذا يدور ببصره من خلال النافذة و كأنه يبحث عن شيء ما ؟ إنه حتى لا يشعر بوجودي . .
بماذا يتمتم ؟ . . لعله يهمس لنفسه بكلمات إحدى تلك الأغنيات الغريبة التي يسمعها الصبية هذه الأيام . .
أفضل شيء أن أحاول الاسترخاء قليلاً . . فمازال الطريق طويلاً ، وأنا أشعر اليوم بأنني منهكٌ تماماً .
التفت الصبي إليه فجأة ، وكأنه يتساءل : منذ متى وأنت هنا . .
بادله بنظرة ترحاب ؛ تجاهلها الصبي ؛ ليعود إلى النافذة
- من الواضح أن هذا الصبي غريب الأطوار . .
ربما يمر بأزمة عاطفية ؛ أو ربما هي أعراض الحب الأول . .
و قبل أن يهمّ بالضحك في أعماقه . . التفت إليه الصبي فجأة . .
- هل ذقت طعم الموت يا سيدي ؟
- ماذا ؟ . . طعم ماذا ؟ . .
قالها متعجباً فزعاً من هذا السؤال المفاجئ
- الموت يا سيدي . .
شعر بأن كلمة ( غريب الأطوار ) كانت مجحفة لشخصية هذا الصبي . . و لكن لا بأس ؛ فالحوار يقتل دقائق الانتظار للوصول إلى المدرسة . .
- و ماذا يعرف صبيٌ في مثل عمرك عن الموت ؟
- ليس أكثر مما تعرفه أنت يا سيدي . . و ليس أقل
فماذا تعرف أنت عن الموت ؟
- الموت يا بني . . الموت هو الموت
- هل رأيت يا سيدي ؟ نحن لا نعرف شيئاً عن الموت ، فمن منا يستطيع أن يصف ملامح الموت ؟
وكذلك الموت . . لا يعرفنا . . فهو لا يميز صغيرنا من كبيرنا ، ولا ضعيفنا من قويّنا ، ولا فقيرنا من غنيّنا
يا سيدي نحن و الموت كمسافرين في قطارين متعاكسين . . لا نلتقي إلا للحظاتٍ معدودة ؛ لا تكفي للتعارف
- صدقت يا بني ، ولكن من في مثل عمرك لا يتحدث عن الموت
- ولماذا يا سيدي ؟ الموت سلعة بائرة لا يشتريها الكبار عندما يجب عليهم ذلك . . لذا يجدها الصغار في الأسواق بأرخص الأثمان .
- ربما ! !
قالها مفضلاً قطع هذا الحوار السخيف ، و متعجباً من هذه الفلسفة الغريبة التي ورطته الصدفة في الإنصات إليها.
أعاد الصبي النظر من النافذة ، ثم ما لبث أن التفت ثانيةً إليه . .
- لم تجبني يا سيدي ؟
- بماذا يا بني ؟
- هل ذقت طعم الموت ؟
- يا بني : الموتى فقط هم من يذوقون طعم الموت ، أما الأحياء فلا .
- يا سيدي : الموتى لا يتذوقون . . إنهم موتى ؛ ألا تفهم ؟ إنهم موتى . .
- يا بني : إذا كان الموتى لا يذوقوا طعم الموت ، فكيف تدّعي أن الأحياء يذوقونه ؟
- لأن الأحياء هم من أنعم الله عليهم بالإدراك . . لذلك فهم يتذوقون
- و لكن . . ألم تقل يا بني أننا لا نعرف شيئاً عن الموت ؟
- صحيح يا سيدي . . و لكننا نستطيع أن نشم رائحته ؛ أن نذق طعمه
- كيف ؛ و نحن لا نعرفه ؟
- يا سيدي :
عندما تخرج من بيتك كل صباحٍ تتلمّس الموت . . تذق طعمه
عندما تجوب الشوارع و الطرقات تفتش عن الموت . . تذق طعمه
عندما تطارده بجسدك الضعيف غير مبالٍ . . تذق طعمه
عندما تشعر به يفر من أمامك مذعوراً . . تذق طعمه
عندما تجده أجبن من أن يحصدك . . تذق طعمه
عندما تعود إلى دارك آخر النهار مهموماً لأنك لم تمسك بالموت . . تذق طعمه
يا سيدي . . عندما تخرج لسانك للموت . . تذق طعم الموت
- نظر إلى الصبي مرتاباًً و قد سرت بأطرافه قشعريرة باردة . . ربما يكون به مساً . .
نفض الفكرة عن ذهنه سريعاً . . ربما الحديث عن الموت هو ما يفزعه ، ولم لا ؟ فالنفس البشرية تجزع من الموت . .
و لكن ما بال هذا الصبي يتحدث عن الموت و كأنه صديقٌ حميم يعرفه جيداً ؟ هل يكون روحاً ؟!!
ما هذا يا رجل ؟ هل تفقدك عباراتٍ بلهاء يهذي بها صبيٌ مخبولٌ صوابك .
تمنى لو يعاود الصبي حديثه ، فربما قطعت الكلمات هذا السيل من الأفكار البلهاء التي تحاصره . .
و كأن الصبي يتعمد أن يدعه لأفكاره تعبث به . . مكتفياً بالنظر من خلال نافذته .
حاول مجاذبة الصبي أطراف الحديث مرة أخرى
- إلى أين أنت ذاهبٌ يا بني ؟
- إلى داري
- هل كنت في المدرسة ؟
- لا
- هل تعمل ؟
- نظر إليه الصبي نظرات استهزاء ٍ . .
أبي لا يجد عملاً . . و كذلك أخي الأكبر
- إذن من أين قدمت ؟
- من بيتي
- ألم تقل منذ لحظات أنك في طريقك إلى بيتك ؟
- لا يا سيدي . . و إنما قلت أنا في طريقي إلى داري
- تراقصت الحيرة في عينيه مغلفةً كلماته :
قادمٌ من بيتك . . و في طريقك إلى دارك ؟
- نعم يا سيدي . . قادمٌ من بيتي و في طريقي إلى داري . . ما الغريب في هذا ؟
- لا شيء يا بني . . لا شيء
شعر بالرغبة في النهوض سريعاً . . بالتأكيد هذا الصبي ليس طبيعياً . .
تمنى لو يسرع هذا الباص قليلاً لينهي هذا العبث . . تمنى لو لم يستقل هذا الباص ؛ لم يره . .
أحس بالندم لأنه لم يرد السلام على زميله أثناء خروجه . . ربما شغلهما الحديث حينها فيعمى عن رؤية هذا الباص اللعين .
- و كأنما أدرك الصبي أنه قد نال منه . . فتحركت ملامحه الجامدة ليمتلأ وجهه لأول مرة بابتسامة مودة :
هل لديك أطفال يا سيدي ؟
- نعم ؛ لدي ( نضال ) عمره ثماني سنوات ، و ( جهاد ) عمرها ست سنوات ، و ( صلاح الدين ) عمره ثلاث سنوات .
- قَرَّ الله بهم عينك
- و أدامك الله لأهلك سالماً يا بني
- عندما يكبر أطفالك يا سيدي ؛ عندما ينضجون ؛ عندما يفهمون ؛ عندما يسألونك عن الموت . .
قل لهم يا سيدي . .
ما أحلى طعم الموت
- لم يمهلني الوقت للتفكير في معنى كلماته ، فقد صرخ فجأة مستوقفاً السائق ، ونهض مهرولاً إلى الباب الأمامي حتى كاد أن يزيحني من مقعدي . .
وقبل أن يهبط من الباص . . توقف فجأة وكأنه نسي شيئاً هاماً ، نظر إلى السيدة التي بجواري ؛ عانقها بعينيه ؛ قبّل يديها و سألها الدعاء . . أطالت النظر إليه و كأنها تحفر ملامحه في ذاكرتها ؛ احتضنته بعينيها ؛ خبأته في صدرها ؛ طبعت على خديه قبلة عميقة . .
رسم على شفتيه ابتسامة راضية و هبط من الباص مسرعاً . .
أخذ يعدو في الطريق كالصاروخ المنطلق يخترق الزحام . . لا أدري لماذا أو إلى أين ؟
إنه فعلاً صبيٌ غريب . . حتى أفكاره و كلماته غريبة مثله .
انطلق الباص . . نظرت إلى السيدة أفتش في ملامحها عن سر هذا الصبي . . لقد تصلبت ملامحها حتى بدت كالموتى . .
لم تمر سوى لحظات . . حتى دوى صوت انفجارٍ هائل . . توقف الباص فجأة ، نهض كل من بداخله يتطلعون إلى الخلف . .
لقد كانت سيارة عسكرية تحترق ككومة من القش . .
قطع صمت الجميع بالباص زغرودة طويلة أطلقتها تلك السيدة . .
لقد كانت أم الصبي . . أبت إلا أن تصحبه إلى حفل عرسه .