يتعرض الشاعر الكبير الراحل نزار قباني في مصر الى نوعين من «المضايقات»، اولهما تزوير اعماله الشعرية على نطاق واسع، واتخاذ هذا التزوير اشكالا مختلفة. فهناك التزوير الكامل الذي يعيد طبع دواوين نزار، الافرادية او غير الافرادية، وبيعها بعد ذلك بسعر متدن. وهناك التزوير المقنع واسلوبه هو وضع مقدمات هزيلة لدواوين نزار لا تتجاوز صفحتين او عدة صفحات، ثم نشر هذه الدواوين بعد ذلك بنصها الحرفي. وهذا التزوير لا تقوم به جهة واحدة، وانما هناك جهات عديدة، استنادا الى دور النشر المذكورة اسماؤها على الاغلفة، واستنادا إلى الاغلفة نفسها. هذا ان كان اسم هذه الدور المذكورة على اغلفة الدواوين هي صحيحة ام انها دور وهمية.
اما ثاني انواع المضايقات التي يتعرض لها الشاعر نزار قباني في مصر في السنوات القليلة التي اعقبت رحيله، فهو تناول عدد من النقاد والكتاب لارثه الشعري باسلوب قاس، بل شديد القسوة احيانا. فها هو الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، في ما كتبه عن نزار في «الاهرام» يميز بين امرين لا ينبغي الخلط بينهما: نزار الاسطورة ونزار الشعر. الاول هو في الحقيقة مصدر هذه الهستيريا العاطفية.
أسطورة نزار
واسطورة نزار تضرب بجذورها في اسباب اجتماعية وشخصية معا. انه في احد جوانبه عمر بن ابي ربيعة العصري الذي يكتب في الحب، ويجترئ على محرمات المجتمع العربي التقليدي (لم يفت حجازي ان يشير إلى عينيه الخضراوين)، وينظم للغواني قلائد من الثناء تطوف بكل اعضائهن (لم يبق نهد ابيض او اسود الا زرعت بأرضه راياتي لم تبق زاوية بجسم جميلة الا وترت فوقها عرباتي).
على النقد الاشد قسوة لشعر نزار اضطلع به نقاد مصريون آخرون منهم الدكتور ماهر شفيق فريد، استاذ الادب والنقد بجامعة القاهرة، الذي كتب في كتاب جديد له اسمه «الواقع والاسطورة – دراسات في الشعر العربي المعاصر» فصلا كاملا عن شعر نزار قال فيه: «حين يوضع شعر نزار في ميزان النقد العلمي الصارم، سيتبين ان اغلبه متواضع القيمة. أوله كآخره بلا نمو يذكر، ولا مكان له في ديوان الشعر الخالد باستثناء اربع او خمس قصائد. ان نزارقباني لن يدوم دوام السياب ولا عبدالصبور ولا حجازي ولا خليل حاوي ولا حتى أمل دنقل.. فهو لا يملك العمق الفكري ولا البراعة التقنية ولا القدرة على التطور الذي يميز عمل هؤلاء الشعراء. وراء بريق ألفاظه. ثمة افتقار الى المعنى، او معنى بالغ السطحية، وركاكة فكرية إن جاز التعبير.
خسارة!
ويضيف ماهر شفيق فريد: «بربّك، اي معنى لقوله «امرأة على محيط خصرها تجتمع العصور»؟ وماذا عن «وفي الزوايا بقايا من بقاياه»؟ لكأنما هو قط بيتي يترك آثارا من برازه، على سبيل الذكرى في هذا الركن من البيت أو ذاك. كلا! لم يكن نزار شاعرا عظيما (وإن أفلتت منه بضع قصائد عظيمة)، ولم يكن رحيله خسارة للشعر العربي، فقد توقف عن كتابة المهم حقا، الأساسي حقا، منذ زمن طويل. إن قصائده النثرية في مجلة «الناقد» اللندنية في سنواته الاخيرة ليست إلا آخر ارتعاشات لذبابة تحتضر في مهب الريح. أو، اذا كان لي ان استعير مصطلحات عبدالمعطي حجازي بعد تطويعها لغرضي: لقد توقف شاعرا واستمر اسطورة».
لا يُنكر ماهر شفيق فريد ان لنزار حفنة من القصائد التي ترقى الى مرتبة الشعر العظيم، لكنها بالغة القلة في سياق انتاجه الغزير، بل الأغزر كثيرا مما ينبغي.
قصيدة عظيمة
من هذه القصائد العظيمة التي يشهد بها الناقد قصيدة اسمها «القصيدة الزرقاء»، وهي برأيه من الأعمال الفنية الكاملة التي لا نجد فيها عيبا واحدا:
في مرفأ عينيك الأزرق
أمطار من ضوء مسموع
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]وشموس دائخة وقلوع
ترسم رحلتها للمطلق
في مرفأ عينيك الازرق
شباك بحري مفتوح
وطيور في الابعاد تلوح
تبحث عن جزر لم تخلق
في مرفأ عينيك الأزرق
يتساقط ثلج في تموز
ومراكب ملأى بالفيروز
أغرقت البحر ولم تغرق
في مرفأ عينيك الأزرق
أركض كالطفل على الصخر
استنشق رائحة البحر
وأعود كعصفور مرهق
هذه القصيدة لنزار، برأي الناقد قصيدة رائعة بل قصيدة استثنائية: «إذا قرأت هذه القصيدة سيعتريك دوار حلو من هذا الغنى التخيلي، والصور الشعرية المعبّرة، حيث لا توجد كلمة واحدة إلا ولها وظيفة. الشعر هو فن الايجاز، وأي ثرثرة تفسد اثره الكلي، انها قصيدة لو نسبت الى رمزي عظيم مثل فالارميه ما شانته، لكن قصائدة القليلة العظيمة ليست هي قصائده المقروءة، وانما تستخفي عن استحياء وسط قطع اكثر اثارة تخاطب غرائز المراهقين».
شعرية السلبية
ثم يعرض ماهر شفيق فريد لشعر نزار قباني السياسي فيقف منه موقفا شديد السلبية، فهو يقول: «انني لست متحيزاً ضد شعر المناسبات ، فهو قد يفجر نبعا من الشعر العظيم مثل انشودة هوراسيا حول عودة كرمويل في ايرلندة للشاعر الميتافيزيقي الانكليزي اندرو مارفل، أو قصيدة «مرثية للعمر الجميل» لأحمد عبدالمعطي حجازي، ولكن قصائد نزار السياسية آنية بالمعنى السيئ للكلمة، بنت اللحظة ولا تدوم اكثر من دوام اللحظة، تخاطب رصيدا وجدانياً مخزونا لدى الجماهير، ولا تصنع في قلب ذاتها اضافة الى الوجدان العام».
ولا يشك الناقد في ان الاصوات الرخيمة التي شدت بقصائد نزار (محمد عبدالوهاب، عبدالحليم حافظ، كاظم الساهر، ماجدة الرومي، نجاة الصغيرة) كان لها اثر كبير في توطيد دعائم شهرته ونشر اسمه بين طوائف من المتلقين ما كانت لولا ذلك لتفكر في ان تفتح له ديوانا واحدا. «انه ببساطة شاعر سعيد الحظ، رضيت عنه الآلهة رغم أي مآسي شخصية (وفاة زوجتة بلقيس الخ...) مما يعرض للبشر جميعا».
طبعات مزورة
هذا هو المنحنى العام لاتجاهات النقد في مصر الآن ازاء شعر نزار: منحى شديد السلبية، في حين ان نزار الاسطورة (تزوير دواوينه على نطاق واسع) لا يتأثر بما يحدث لنزار الشاعر بدليل امتلاء ارصفة القاهرة بما لا يحصى من الطبعات المزورة لاعماله
القبس الكويتية