بسم الله الرحمن الرحيم
أبو الحسن التهامي , شاعر مغمور , كان له ابن صغير يحبه حباٌ شديداُ , ويداعبه دوماُ , كان زهرة الدنيا , وعطر الحياة ...
إذا رآه تبسم أحس أن الدنيا بأسرها تتبسم , وإذا اكفهر وعبس تحولت الحياة إلى ظلام كئيب ...
ولما زادت الذكريات بين الطفل وأبيه , واشتد الوصال , وبلغ الحب مداه , غادر الطفل هذه الحياة ... فنعاه أبوه بقصيدة حفظها التاريخ في صدره على مدى قرون مضت , قصيدة يتمنى كل شاعر بحق أن يكون هو من سطَر أحرفها , لجمالها وروعتها , وما فيها من مشاعر صادقة , وإحساس عظيم, يقول فيها مبيناً حقيقة الدنيا ...
حـكـمُ المنـيَّـةِ فـــي الـبـريَّـةِ جـــار
مـــا هـــذه الـدُّنـيــا بــــدار قــــرارِ
بيـنـا يُــرى الإنـسـانُ فيـهـا مُخـبـراً
حـتَّـى يُــرى خـبـراً مــن الأَخـبــارِ
طُبِعَـتْ علـى كَــدَرٍ وأنــت تريـدهـا
صـفــواً مـــن الأقـــذاءِ والأكـــدارِ
ومـكـلِّـفُ الأيَّـــامِ ضــــدَّ طـبـاعـهـا
متطـلِّـبٌ فــي الـمــاءِ جَـــذوةَ نـــارِ
وإذا رجـــوتَ المسـتـحـيـلَ فـإنَّـمــا
تبـنـي الـرجـاءَ عـلـى شفـيـرٍ هـــارِ
فالـعـيـشُ نــــومٌ والـمـنـيَّـةُ يـقـظــةٌ
والــمــرءُ بيـنـهـمـا خــيــالٌ ســــارِ
فـاقْـضـوا مـآربـكـم عِـجــالاً إنَّــمــا
أعـمـارُكـم سَـفَــرٌ مـــن الأســفــارِ
وتراكضـوا خيـلَ الشبـابِ وبـادروا
أن تُــسْــتَــرَدَّ فــإنَّــهــنَّ عَـــــــوارِ
فالدهـر يخـدع بالمـنـى ويُـغِـصَّ إن
هَـنَّــا ويـهــدم مــــا بــنــى بــبَــوارِ
ليس الزمـانُ وإن حرصـتَ مسالمـاً
خُـلُـقُ الـزمــانِ عـــداوَةُ الأحـــرارِ
إنِّــي وُتِــرْتُ بـصـارمٍ ذي رَوْنَـــقٍ
أعـــددتُـــه لــطــلابــةِ الأوتـــــــارِ
أُثـنــي عـلـيـه بـأثــرِهِ ولــــو أنَّــــهُ
لــــو يُـغْـتَـبَــط أثـنــيــتُ بــالآثـــارِ
يـا كوكبـاً مــا كــانَ أقـصـرَ عـمـرَهُ
وكــذا تـكــون كـواكــبُ الأسـحــارِ
وهــلالَ أيَّــامٍ مـضـى لـــم يـسـتـدرْ
بــدراً ولــم يُمْـهَـلْ لـوقــتِ سِـــرارِ
عَجِـلَ الخُسـوفُ عليـه قـبـل أوانِــهِ
فـغـطَّــاهُ قــبــل مَـظِـنَّــةِ الإبـــــدارِ
واسـتُــلَّ مــــن لأقــرانِــهِ ولــداتِــهِ
كالمُـقـلَـةِ اسـتُـلَّـتْ مـــن الأشــفــارِ
فــكـــأنَّ قـلــبــي قــبـــرُهُ وكــأنَّـــهُ
فـــي طـيِّــهِ سِـــرٌ مـــن الأســـرارِ
إنْ تَحْتَـقِـرْ صـغـراً فـــربَّ مُـفـخَّـمٍ
يـبـدو ضـئـيـلَ الـشـخـص للـنُّـظَّـارِ
إنَّ الـكـواكـبَ فـــي عـلــوِّ محـلِّـهـا
لَتُـرى صِغـاراً وهـي غيـرُ صـغـارِ
وَلَـدُ المعـزَّى بعـضُـهُ فــإذا مـضـى
بـعـضُ الفـتـى فالـكـلُّ فــي الآثــارِ
أبـكـيـهِ ثـــمَّ أقـــولُ مـعـتــذراً لــــهُ
وُفِّــقْــتَ حــيــنَ تــركـــتَ ألأم دارِ
جــاورتُ أعـدائـي وجـــاورَ ربَّـــهُ
شـتَّــانَ بـيــن جـــوارهِ وجــــواري
أشكـو بعـادك لـي وأنــت بمـوضـعٍ
لـولا الـرَّدى لسمعـتَ فيـه سِـراري
ما الشـرقُ نحـو الغـرب أبعـدَ شُقَّـةً
مــن بُـعـد تـلـك الخمـسـةِ الأشـبـارِ
هيهـاتَ قـد علِقتـكَ أسـبـابُ الــرَّدى
وأبـــادَ عـمــرَك قـاصــمُ الأعـمــارِ
ولقـد جـريـتَ كـمـا جـريـتُ لغـايـةٍ
فبلغتَـهـا وأبـــوكَ فـــي المِـضـمـارِ
فــإذا نطـقـتُ فـأنــتَ أوَّلُ مَنـطـقـي
وإذا سـكـتُّ فـأنـت فــي إضـمـاري
أُخفـي مـن البُرَحـاءِ نـاراً مـثـلَ مــا
يُخفـي مــن الـنـارِ الـزنـادُ الــواري
وأُخفِّـضُ الزَّفَـراتِ وهـي صواعـدٌ
وأُكفـكـفُ العَـبَـراتِ وهــي جَــوارِ
وأكُـــفُّ نـيــرانَ الأســـر ولـربَّـمـا
غُـلِـبَ التصـبُّـرُ فارتـمـتْ بـشَــرارِ
وشهـاب زَنـد الـحـزن إن طاوعـتـهُ
وارٍ وإن عــاصــيــتــهُ مــــتــــوارِ
ثــوبُ الـرئـاءِ يـشِـفُّ عـمَّــا تـحـتـهُ
فـــإذا التـحـفـتَ بـــهِ فـإنَّــكَ عـــارِ
قـصُـرَتْ جفـونـي أم تبـاعـد بيـنـهـا
أمْ صُـــوِّرَتْ عـيـنـي بـــلا أشـفــارِ
جَفَـتِ الكـرى حـتَّـى كــأنَّ غِــرارهُ
عنـد اغتمـاضِ الطـرف حـدُّ غِـرارِ
ولــوِ استـعـارتْ رقــدةً لـدحـا بـهـا
مـــا بـيــن أجـفـانـي مـــن الـتـيَّــارِ
أُحـيـي ليـالـي الـتِّـمِّ وهــي تُميتُـنـي
ويُـمـيـتـهــنَّ تــبــلُّــجُ الأســـحــــارِ
والصـبـحُ قــد غـمـرَ النـجـومَ كـأنَّـهُ
سـيـلٌ كـمــا فـطـفـا عـلــى الـنُــوَّارِ
لـو كنـتَ تُمنـعُ خـاض دونـك فتـيـةٌ
مــنَّــا بُــحُــرَ عــوامـــلٍ وشِــفـــارِ
فدَحَوْا فُويقَ الأرضِ أرضـاً مـن دمٍ
ثـــمَّ انـثـنَـوا فـبـنَـوا سـمــاء غُـبــارِ
قــومٌ إِذا لبـسـوا الــدروع حسبتَـهـا
سُـحُـبـاً مُــــزَرَّرةً عــلــى أقــمــارِ
وتــرى سـيـوفَ الـدارعـيـنَ كـأنَّـهـا
خُـلُــجٌ تُـمَــدُّ بـهــا أكــــفُّ بــحــارِ