جرائم انتحال الصفة.. رقم ينمو في سجلات القصر العدلي

أنظار
عديدة انشدت إلى علي. ب الذي ظهر فجأة في إحدى المحافظات الشرقية ليعرف عن
نفسه كأحد "ضباط القصر"، وما لبث طويلاً قبل أن يغدو الرجل الأول في
المحافظة بأسرها ولدى المحافظ الذي لم يكن ليرفض له أمراً، غير مكتفٍ
بتعيين فلان مدير ونقل الآخر، وتقاضي المبالغ المرموقة أتعاباً لدوره
"كواسطة" مستخدماً أسماء لشخصيات كبيرة يحقق من خلالها مآربه، حتى بلغ به
الأمر حسب مصدر من القصر العدلي أن يعد رجلاً بتعيينه محافظاً وأن ينتزع
مناقصات لحسابه الخاص بعد أن أمسك بتلابيب القائمين عليها.
ولعل صعوبة الكشف عن شخصيته الحقيقة، هو ما
أطال عمر هذه المسرحية فدامت لستة أشهر بلغت خلالها جرائم احتياله
الأربعين حالة طالت فقراء الناس أغنياءهم والمتنفذين منهم، إلى أن جاءت
الحقيقة المتأخرة على يد أحد القضاة الذي رفع الغطاء عن الرجل ليتبين أنه
(محتال من الطراز الأول)، وأن الدور الذي لعبه لم يكن تجربته الأولى،
فإحدى المحافظات الجنوبية نالت نصيبها من احتياله ولم يكن محافظها في منأً
منه هو الآخر.
حبل الكذب قصير
ولا عجب أن "ضباط القصر" و"ضباط الأمن" هي
الصفات الأكثر انتحالاً حسب إحصائيات القصر العدلي -وفقاً لأحد قضاته-
فأوصاف مثل هذه تثير شهية المحتالين الذين يبحثون عن سبيل يمنحهم القوة
ويجعل من كلمتهم هي الفصل في منازعات أحياناً وعمليات احتيال أحياناً
أخرى، ولعل السبب ذاته هو ما جعل انتحال هذه الصفات الأقل كشفاً، ورفع
الشكاوى ضدها قليلاً جداً قياساً لمعدل ارتكابها، فالناس وكما يؤكد
المحامي فائق حويجة يحسبون ألف حساب قبل الادعاء على منتحلي هذه الشخصيات
ويستعيضون عن ذلك بالسؤال (من تحت لتحت) عن حقيقة المدعي.
وغير بعيد عن هذه الأجواء تحدثت سجلات القصر
العدلي في ادعائها رقم /7770/ تاريخ 21/6/2005، عن شكوى تقدم بها طارق
علاوس ضد عبد الحميد.ح، الذي ادعى أنه ضابط أمن مطالباً إياه بمبلغ مالي
ليغض النظر عن وضع الأول لبلور "فيميه" على سيارته، ولكن القدر شاء أن
يكتشف الضحية تلك الحيلة بعد أن رأى هذا المحتال في مكان آخر وبصفة عادية
هذه المرة ما دفعه لتقديم شكواه تلك وبكل ثقة.
وكما تتمتع معظم الأعمال بمواسمها فإن
لطريقة الاحتيال هذه موسمها الخاص هي الأخرى، ففي النهاية من كل عام وعند
اقتراب رأس السنة تشهد انتحالات الشخصية ازدياداً كبيراً وفقاً لمصدر
القصر العدلي، وخاصةً أن تلك الأيام تحفل بقرارات التوظيف والتنقلات
الإدارية التي تشكل مادة دسمة لمحتال أوهم هذا الغريق أو ذاك بأنه طوق
نجاة سينشلهم من حالهم ويوصلهم إلى ما يبتغونه، وسرعان ما يذوب الثلج
ويستيقظ هؤلاء ليجدوا أنفسهم متعلقين بمجرد قشة تطفو أحياناً وتغرق
أحياناً أخرى.
حاميها حراميها
القانون من جهته لم يعر طبيعة الشخصية
المنتحلة أي اهتمام سواء أكانت أمنية أم غير أمنية، وإنما اكتفى بالحديث
عن مستوى الانتحال، كما يقول المحامي حويجة (فالقانون يعاقب من يرتدي ودون
حق لباساً أو شارةً تخص جهة أو دولة أو رجل قانون بالحبس لستة أشهر على
الأكثر حسب المادة 281، وذهبت المادة 282 إلى إنزال عقوبة السجن من شهرين
إلى سنتين بمن يظهر منتحلاً وظيفة عامة عسكرية أو مدنية أو مارس
صلاحياتها، ولا ينقص السجن عن الستة أشهر إذا اجتمع اللباس مع الانتحال،
وترفع العقوبة إذا اقترن الفعل بجريمة أخرى وفق أحكام المادة 247).
ولكن الأمر أخذ شكلاً مختلفاً بعض الشيء لدى
إبراهيم عصفورة الذي سئم ابتزاز شرطي المحافظة محمود.ث له أثناء ترميم
إبراهيم لمنزله مدعياً أن ما يقوم به من ترميم هو عمل مخالف، ولم يكتف
الشرطي المحتال بالتردد إلى منزل إبراهيم بل ذهب به الأمر إلى زيارته في
عمله لطلب "برطيل" بشكل أو بآخر، إلى أن قرر إبراهيم وبعد أن طفح به الكيل
التقدم بشكوى للمحافظة ليفاجأ بأن الشرطي المذكور لا يتبع للمحافظة أصلاً،
وإنما يتبع لقسم شرطة في أحد الأحياء وليس له أي علاقة بشؤون البناء أو
الترميم كما ورد في الدعوة القضائية رقم 1373 تاريخ 28/8/2001.
وأياً كانت الصفة التي تَمَثّلها (المريض) حسب وصف الدكتور حسان المالح
الأخصائي في الطب النفسي، فإنها تعبر عن إحباطات قديمة ما يزال يحمل
بقاياها في ذاته، ومحاولة تعويض مشاعر النقص وضعف القيمة والإهمال تبعث في
نفسه الزهو والإعجاب بالذات، وخاصة أنه يرى نفسه أكثر ذكاءً عند الاحتيال
على الآخرين.
لا تلعب بالنار
واللافت للانتباه أن انتحال الصفة غالباً ما
يتحف المحاكم بالجديد الذي تتفتق عنه أذهان المنتحلين، فلم تسلم منه
الجامعات التي قاضت مراراً خصوماً من طلابها لتقدمهم إلى امتحانات عوضاً
عن آخرين، كادعائها رقم /6069/ تاريخ 16/5/2007، على الطالب محمود.م الذي
تبين أن شخصاً آخر تقدم بدلاً عنه إلى امتحان مادة اللغة الإنكليزية، على
حين امتهن آخرون هذا النوع من الاحتيال، فبلغ الحد بالطالب فادي. لأن
يتقاضى مبلغ /6000 ل.س/ عن كل مادة يتقدم بها بدلاً عن طالب آخر،
فالتسعيرة معروفة والدفع بعد النجاح.
وحتى القصر العدلي بدوره لم ينجُ هو الآخر
من محاولات الاحتيال هذه، وهو الذي لطالما أصدر أحكاماً بحق منتحلي
الصفات، ليقع هذه المرة ضحية محتال امتلك من الجرأة ما جعله يسرق نسب أكثر
شخصياته نفوذاً، فراح يركن سيارته في مرآب القصر بصفة (ابن المحامي العام)
غير أن الحبكة الذكية لم تدم لأكثر من أسبوع قرر بعدها الحرس اقتياده إلى
مكتب والده الذي نفى وجود أية قرابة دم بينه وبين الشاب الباحث عن مرآب
لسيارته.
ومن آخر ما حرر في ديوان القصر العدلي دعوة يروي تفاصيلها محمد.ع الذي كان
يمكث في دكانه الواقعة في إحدى ضواحي دمشق حين زاره مفتشان من الصحة (ويا
غافل إلك الله) فيقول: (إن اللباس الرسمي والنظرات الجادة لم تبعث في نفسي
أي شكٍ حول شخصية الرجلين، ولكن الألف ليرة التي طلبها أحدهما مقابل عدم
(نكش) مخالفة صحية في الدكان جعلني أطلب الوصاية من جاري الذي يعمل في
مديرية الصحة، إلا أنه لم يتعرف على أحد منهما ما كشف أنهما مجرد دورية
وهمية، ليتبين لنا بعد طلب الشرطة أن خمس دوريات مماثلة تقاسمت الأحياء
المجاورة).
محتال جنسي
شكل انتحال الصفة وسيلة احتيال ذكورية
بامتياز هذه المرة وذلك حسب أضابير القصر العدلي، فالرجال هم الأجرأ على
خوض غمار هذا النوع من التجارب، غير أن النساء يستخدمن كطعم في بعض
القضايا، وأحياناً يكن الضحية، فعادل.ع لم يتوان عن انتحال صفة ضابط في
الأمن الجنائي عندما داهم منزل يسكنه رجل وزوجته الداعرة، وبدلاً من
اقتيادها إلى الفرع اقتادها إلى منزله عوضاً عن ذلك، وشروط التستر على
جرمها هي معاشرته لمدة أسبوع، إلا أن استغاثة الزوج بالشرطة كشفت حقيقة
ذلك الضابط المزعوم.
ضعف العقوبة الرادعة مدعمة بالعوز وفقر
الحال وفوبيا الخوف من الصفات الأمنية، عوامل جعلت من انتحال الصفة الجرم
الأول في خانة الاحتيال بحسب المصدر ذاته في القصر العدلي، والذي يرى في
تشديد العقوبة حلاً ناجعاً من شأنه تقليل عددها، على حين ذهب المحامي
حويجة إلى أن الفساد سبب رئيسي لمثل هذه الأعمال "فالمرء وعندما لا يتمكن
من الحصول على حقوقه بشكل شفاف وقانوني سيلجأ إلى طرق أخرى من وراء
الستار"، أما الدكتور المالح فيدعو إلى التعامل مع هذه الحالات كمشاكل
اجتماعية تتطلب تأهيل مرتكبيها ومعالجتهم، ويضيف قائلاً: "لكل منا نقصه،
ولكن التعبير عن ذلك النقص بطرق إيجابية تنسجم مع المجتمع وأخلاقه هو
التحدي الأكثر أهمية"، فأي تحدٍ هو الذي حاول هؤلاء اختباره عندما ألغوا
وجودهم وبدوا مرتدين أقنعة اعتقدوا أنها ستخرج المارد من القمقم وتفتح
أمامهم أبواباً لطالما كانت عصية على الفتح

والله يا أخي ما خفي كان أعظم
شكراعلى الموضوع