الانسان هو الكائن المحكوم عليه بالحرية. ومن أجل ذلك كانت آلهة الاغريق في الأدب اليوناني تحقد على البشر.. لأنهم يولدون ويموتون.. ويكونون اطفالا وشبابا وشيوخا ويموتون.. والالهة في أبدية مملة ولذلك كثيرا ما انقلبت الالهة بشرا حقدا على الانسان.. وتفنن آلهة الاغريق في رسم صور العذاب
فهناك سيزيف الذي حكمت عليه الالهة ان يدفع حجرا إلى قمة الجبل ويسقط منه إلى السفح فيدفعه مرة أخرى وإلى الأبد.. وكان سيزيف متحديا للالهة, فهو يدفع الحجر بحماس وشهية, كأنه لا يتعب ولا يتململ.. أو هو تنتالوس الذي حكمت عليه الالهة بأن يقف في بحيرة من الماء العذب. والماء يرتفع حتى يقترب من شفتيه فاذا انحنى ليشرب انحسر الماء حتى قدميه وهكذا إلى الأبد. أو واحدة من بنات الجرجون.. وهن اللاتي اذا نظرن الى شيء صار حجرا.. الأشجار والزروع والحيوان والانسان.. فمحكوم على بنات الجرجون ان يعدمن الوجود ويحولنه إلى موت.. فهن قد حبسن انفسهن في مقبرة حجرية.. وعندما فكر الانسان في الخلاص من بنات الجرجون قدم لهن مرآة, فلما رأين أنفسهن صرن حجرا أيضا.. حجرا على حجر
*******
وبدأ الانسان حياته بالسقوط من السماء إلى الأرض.. وسقط إلى عالم لا يعرف عنه شيئا وكان عليه ان ينظم ويختار ويخلق.. فالانسان سقط وحده ليبقى كذلك. وهو يحاول ان يكون له أهل وعلاقات تشده ويشدها.. وان تكون له جذور وفروع.. والا يكون شجرة ينمو ويموت في نفس المكان والا يكون حيوانا مبرمجا يعيش ويموت على نسق واحد حتى الموت.. وعندما تكاثر الناس.. صار الناس أعداء للإنسان.. أعداء للفرد فالشعوب والجماهير قوة قاهرة.. والفرد يقاوم الجماهير ويعيش بها وضدها.. تماما كالسفينة تعيش على الماء وضد الماء وبالماء ولا يغرقها إلا الماء
كل هذه الأفكار هي تفريعات على الفلسفة الوجودية التي آمنت بها.. والقضية واحدة: ما الذي يفعله الفرد في مواجهة الجماهير الغاشمة. والتي رسمت الحياة والمستقبل كما نريد. وما نريد هو أن يمشي الانسان في الخط ولا يخرج عن الطابور وان يكون مثل الآخرين. شهية مفتوحة على الكلام مسدودة عن الحوار. فإذا تكلم لا يسمع وإذا سمع لا يتكلم. وهذه الجماهير هي التي جعلت من الناس قوالب من طين أو من زجاج.. وهي التي مهدت للنظم الشمولية التي تحتاج إلى من يقول: نعم دائما
*******
يوم انتحر أحد الجنود الألمان الذين اسقطوهم في جزيرة كريت.. هبط من الطائرة بالمظلة ومعه موتوسيكل. والمفروض ان يدير الموتوسيكل وأن ينطلق وفقا لخريطة معه. ولكنه لم يجد الخريطة. ولا يعرف إلا اللغة الألمانية. وقد تركه زملاؤه وفقا للخريطة. ووجد نفسه وحيدا لا يعرف ما الذي يمكن ان يفعله.. فهو سقط ولا قومة له. ولم يجد الا حلا واحدا هو ان يطلق الرصاص على نفسه. وبدلا من ان يقتل عدوه قتل نفسه وعندما عثروا على أحد الجنود اليابانيين ضالا منذ خمسة وعشرين عاما في احدي غابات الفلبين. سقط وضل. ولا يدري شيئا عن الجيوش اليابانية. ماذا حدث لهم ولأعدائهم. رسم حياة لنفسه يأكل الثمار ويصيد الطيور والحيوانات وينظف سلاحه كل يوم وينتظر. ويسرق أيضا من القري المجاورة. وخلق عند الناس اسطورة ان هناك عفاريت تسكن الغابة تقتل وتسرق. ولم يكن هناك عفاريت وانما هذا الجندي المجهول الذي انقطع عن العالم وابتعدت عنه الدنيا. وكان عليه ان يضع لنفسه قانونا يوميا. وان يكون هو السيد المطلق.. السجين الفرد.. الغريب في الأرض الغريبة
إنه يونس في بطن الحوت كما يقول الفيلسوف الفرنسي البير كامي.. فالانسان هو يونس والحوت هو الناس الجماهير.. الآخرون. ابتلعه الحوت ولم يأكله. وخرج من بطن الحوت ليعيش في بطن حوت أكبر.. إنها الجماهير التي وصفها جاست وأبدع في ذلك ولكن الانسان حي لم يبتلعه الحوت فإنه يعاني عذابه وخوفا آخر.. وهنا وجدتني في ضيافة الفيلسوف الألماني مارتن بوير.. والمشكلة عنده: أنا ـ أنت.. وأنا ـ وأنا ـ هو.. وأنا ـ نحن. فمثلا عندما تتحدث الي نفسك. فمن الذي يحدثك من الذي يوافقك من الذي يعارضك.. ما اسم هذه المسافات بيننا.. من الأنا ومن الأنت
*******
في الفلسفة الوجودية الانسان وحيد غريب لم يختر وجوده. ولا اختار ان يكون انسانا. وإنما وجد نفسه هكذا مزودا بسلاح هو حريته. وضرب لنا مثلا الفيلسوف سارتر بأننا إذا رحنا نخير طفلا ماذا يحب ان نشتري له.. فراح يقول في كل مرة: لا.. فنضيق به ونقول له: أنت حر. فيبكي الطفل لأننا وضعناه في مسئولية ان يختار. ولكنه لا يريد
فنحن لم نختر ان نكون أحرارا ولا اخترنا ان نعيش بين الناس بشروط الناس. وإنما ان نموت بعيونهم وفي عيونهم وبأيديهم. ولا هم اختاروا هذه القوة الغاشمة. وإذا كان من أحلام الانسان ان يكون مختلفا عن إرادة الجماهير, والمثل الأعلى للانسان الجماهيري هو ان يكون مثل الآخرين.. وبذلك نساهم في خلق جيش هائل اسمه الجماهير المكون من ألف أو مليون انسان لا تربطهم ببعضهم البعض أي صفات واحدة
ويقول الفيلسوف جاست: إن الذبابة أقوى من الجماهير.. ان لها ملامح محددة ولها جهاز عصبي وجهاز هضمي وجهاز تنفسي ومن الممكن رؤيتها ورسمها بوضوح.. ثم إنها كائن حي.. ولكن الجماهير ليست بهذا الوضوح ولا بهذا الشكل الكامل.. فالجماهير لا شكل لها.. فهي التي فرضت التفاهة والضحالة والانحطاط على الناس بقوتها العمياء
فكيف لا يكون الانسان حزينا وكيف لا يكون طعم الحياة على لسانه مرا.. وكيف لا يصرخ كما صرخ موسي عليه السلام: أنا الغريب في الأرض الغريبة
*******
للكاتب أنيس منصور
- أنيـس منصـور-